في إطار حملة «جسدي وحدي».. جيهان فادي تكتــــب: جسدي الذي لا تنعكس صورته في المراَة
مر وقت طويل وأنا أتذكر ذلك الموقف، الذي أضعف ثقتي بنفسي وشوه علاقتي بها، لم يكن الوقوف على كرسي ومط جسدى أمام الدولاب لتخزين الملابس الشتوي أو الصيفي من أفضل هواياتي، فهذه التجربة تجبرني على مواجهة بغيضة أحاول تجاهلها بقدر الإمكان كل موسم.
داخل الرف العلوي للدولاب وبين الملابس المخزنة، هنالك دومًا كتلة ملابس فى القاع، وضعت بعناية كي يتم إخفائها عن الأنظار، تكاد تبدو ككتلة نسيج رثة للوهلة الأولى، ولكن ما أن تفرد أطرافها حتى ترى السنين تتجسد أمامك فى مجموعة صور ملابس متحركة، وقد رأيت هذه الصور واضحة تمامًا حينما قررت يومًا فرد كل ماهو مطوي واسترجاع أيام الخوف والكبت والقهر.
أطوال مطولة من القماش الحريري، قررت ارتدائها يومًا على أنها الحجاب الشرعي الذى يخفي ويحجب ويستر ويضع بيننا وبين الأشرار حاجزًا منيعًا، كان القماش يصل إلى مترين أحيانًا، قماش ثقيل كى يبقي الرأس شاخصًا فى ذرات التراب.
أردية عريضة تتسع لحجم فيل صغير لا لمراهقة فى الــ17 من عمرها، جميعها موحدة الألوان إما الرمادى أو البني أو الأسود؛ عباءات واسعة جدًا كي تبقى أجسادنا المتشكلة حديثًا داخل أسلاك شائكة من الخوف لتعزلني عن العالم الخارجي.
وقفت أنظر وافكر فى كل تلك الألبسة الشرعية وأفكر فى خمس سنين من التخفي، اذكر حديثًا طفوليًا لي مع إحدى الصديقات في المرحلة الابتدائية، وأنا أقسم اننى لن ارتدي الحجاب حينما أكبر، لأنني أحب شعري، وأحب أن أكون جميلة مثل الممثلات، لكن مع بداية المرحلة الإعدادية ارتديت الحجاب، حتى لا أكون الوحيدة غير المحجبة فى “الشلة” ولأن الأمر كان نوعًا ما “موضة”، إلا أنه في نهاية المرحلة الإعدادية وجدت روحي تخطو نحو مرحلة مبالغ فى قراراتها، ولم تتنتهِ السنة الأخيرة من الإعدادية حتى كنت ارتدي حجابًا مثلت الشكل (ستايل إيرانى)، كي يخفى نصف القورة وثلاثة أرباع الخدود وينتهي بدبوس مثبت جيدًا أمام الذقن، وطبعًا زي مدرسي (uniform) واسع، ولم أدخر جهدًا في نصح الفتيات الأخريات بشأن مدى أهمية الزي الشرعي، كي تخفينا عن الأعين الناهشة لأجسادنا، وتبعدنا عن المتحرشين ولصوص تحسس الأجساد في الطرقات، وتطور الأمر لإرشادات شبه منتظمة عن الشرع والدين والعفة والحجاب والمرأة والشيطان والرجال، التي لا تختلف كثيرًا عن الشياطين، وبالتطرق إلى ذكر الشياطين، فأود الحديث عن أحدهم.
شيطان من العائلة، كلا لا أريد إهانة الشياطين، هو شخص من العائلة ووسط حديث طبيعي بين شخصين هو وأنا، قرر قطع الحديث وتلمس صدري بطريقة وقحة وحقيرة، ووسط ذهولي وتحديقي بوجهه وسؤالي الصارخ له “ما الذى يفعله؟”، رد ضاحكًا “أنا بهزر معاكِ”، ثم رحل، وحينما واجهته فيما بعد بما فعله، وبأنه شخص مهووس بالجنس وأجساد النساء، حتى إن كن هؤلاء النساء من العائلة، أجابني بصرامة وقال “أنا راجل واعمل اللى عايزه، انشالله حتى امسك صدرك.”
صدمني الرد وخلق داخلي اَلف مستعمرة ومستعمرة من الكراهية والبغض والخوف، وبعدها لم يتبق داخلي تجاهه ذرة احترام، ولم يتبق داخلى تجاه العالم ذرة واحدة من الشعور بالأمان؛ تحولت إلى شخص أكثر عزلة وتدينًا وتمسكًا بالأقمشة، بدأت أغلق أبواب روحي أمام الحياة، وبدأت ارتدي الطبقات فوق بعضها، حرصًا مني ألا يراني الرجال ولا يرون صدري الذى ينمو، ولا جسدي الذي يتغير ويشتهونه جدًا لسبب مريض لا أفهمه، من بعدها تشوهت المفاهيم كلها في مخيلتي وتلبستني قناعة أن كل ذكر ما هو إلا جماد لا يفعل شيئًا سوى اشتهاء النساء والفتيات الصغيرات.
كنت أقضى أغلب وقتي داخل غرفتي، فالعالم الخارجى لم يعد مكانًا آمنًا ولا شريفًا، كنت أبذل جهدًا مضنيًا في تشويه نفسي فى عيون الناس، سواء بالملابس الرثة، غير المتناسقة مع عمري، والتي لا تتناسق مع بعضها البعض، أو بعدم الاهتمام بنفسي، كنت بعيدة كل البعد عن ما يستخدمنه البنات للتجميل، وكنت اتفلسف دومًا بأنني أريد الاَخرة ولا أريد شيئًا من الدنيا، هذا كلام فتاة فى الــ16 من عمرها، ورغم كل ما كان يلوك به لساني من أشياء تخص نواهي وأمر الله والشرع، الا أن السبب الحقيقى دومًا كان الخوف؛ الخوف من أن يلمس أحدهم جسدي مرة أخرى أو يعاملنى فقط كجسد، كنت أخاف من الناس من الأصدقاء من كل رجل، كنت ارتعد من كل التفاتة وايماءة فى الشارع، تحملت السخرية من مظهري الغريب، لأنها فى نظرى وقتها كان ذلك أكثر قابلية بالنسبة لي للتحمل، عن التحرش او انتهاك جسدى مرة أخرى.
كبرت وذهبت الأثمال وانقضى عهدها واختلف الفكر وطريقة النظر للعالم.. لا إن اصوات القيود لم تختفِ .. ظلت تعد علي أنفاسي، حتى أننى لم أتخلص من استيائي تجاه صدري لأنه حجزني فى تلك الهوة المظلمة العميقة.
لم اتخلص من نظرة الإهمال التى ألقيها على صورتي فى المراَة كل يوم، لعدم تصديقي الكامل في جمال هذا الجسد الذي اكتفى من الانتهاكات والسرقات والكبت وتوترات الخوف والاَلم.. لن استطيع استبدال شبح الخوف من العالم الذى تلبسني بفستان أزرق جميل وأحمر شفاه.
أذكر أن أحدهم قال يومًا أمامي، إن المرأة المصرية ترتدي (هلاهيل) طوال الوقت وليس لديها أي فكرة عن الشياكة.
لم يستوقفني الأمر كثيرًا وقتها بالجدال، إلا عندما سافرت في عطلة إلى بلدتي البائسة، التي ترتدى فيها النساء السواد طوال حياتهن، إذا ترملن أو تطلقن أو أصبحن “عانسات”، وغير مسموح لهن التجمل أو النظر لأنفسهن باعتبارهن جميلات أو حتى التفكير فى استعادة الشباب الذي يسرقه الزمن .. غير مسموح أي من هذا، وفى المدن غير مسموح للفتاة ارتداء فستان أو حتى ارتداء ما أرادت أن ترتديه، فهى إذًا عاهرة تريد أن يتم التحرش بها، وكأنها دعوة عامة للمجتمع للمرح داخل مساحاتها الشخصية أو بمعنى أصح (واحدة عايزة طول الوقت وفايرة)
للاَسف لا أتذكر صديقي قائل عبارة (الهلاهيل) حتى أوضح له ما نوع الهلاهيل التي تقبع فى عقول أمثاله فى المجتمع.