إنچي همام

 

كاتبة المقال

 

 

ضئيل هو الاهتمام بالسينما التسجيلية، إذا قارناه بالاهتمام بالسينما الروائية في مصر، ولا يمكننا الاستمتاع بأفلامها إلا من خلال بعض الأماكن المحدودة المهتمة بالثقافة السينمائية. وقد تسنى لي مؤخرًا مشاهدة الفيلم المهم “أم غائب” من خلال برنامج عروض جمعية نقاد السينما المصريين، ونشكر للجمعية وغيرها من مراكز الثقافة السينمائية إتاحة الفرصة لنا لمشاهدة هذه الأفلام.

بين الحياة والموت

جنين غائب يسبح في ماء رحم مجهول، ومقابر يُروَى زرعها بانتظام دائم كما تُروَى الحياة، بين هاتين المفردتين يبدأ وينتهي عالم “أم غائب” أو “حنان” بطلة العمل.

يبدأ الفيلم بلقطة لطفل صغير، يعدو ويضحك في الحقل، يلاحقه والده ويناديه، والطفل مستمر في الركض، مشهد ربما لا علاقة له بتلك البطلة التي تدور حولها الأحداث، ونحن لا نعرف لمن هذا الطفل، ولكنه كل العالم في هذه الحكاية وهذا الفيلم؛ الحلم المتاح للجميع، والمحال على تلك البطلة المُعذبَة.

لم تكتفِ “نادين صليب” بسرد تقليدي لحياة سيدة صعيدية، تُعاني كل أنواع المعاناة والحرمان في مجتمع شديد القسوة – ولو عن غير عمد -، كل ذلك لأنها لم تصبح أمًا، لم تنجب ذلك الصبي المنتظر لأكثر من ثلاثة عشر سنةً، تُسقِط “نادين” بشتى الصور الشعرية حياة أولئك التعساء على كل مفردات الحياة، حياة فقيرة، جهل وقسوة، وتعلق وحيد بالعالم، هو الولد، الصبي، وكأن هذا العالم التعس بحاجة إلى مزيد من التعساء.

كان يكفيها لتقديم فيلم جيد، تصوير تلك التعبيرات التي تفيض بالأسى من عين “حنان” بطلة الفيلم، فالعديد من المشاهد لبطلة القصة، كانت قوية التأثير كأعظم فيلم روائي، وعلى سبيل المثال، مشهدها وهي تتحدث عن حياتها قبل الزواج، وكيف كانت عضوةً في فرقة موسيقية نسائية مكونة من ثلاث إناث، إحداهن تزغرد والأخرى تغني، وهي تعزف على اَلة الطبلة، كُن يحتفلن بجميع أفراح القرية، ذلك قبل هذا الزواج والحرمان من الإنجاب.

بعد الحديث عن تلك الفرقة تستطرد “حنان” بلهجتها الصعيدية «دلوقتي خلاص .. مفيش نفس»، هذا المشهد وغيره من طاقات ومشاعر صادقة، استطاعت المخرجة جعل الأبطال يعبرون عنها، كانت كفيلةً بصناعة فيلم جيد جدًا، لكن “نادين” لم تكتفِ بذلك، وزاوجت بين صدق الوجوه وصدق الحدث وطزاجة الطبيعة وقسوتها أيضًا؛ خيوط العناكب التي تُنسَج أمام أعيننا، لتعشش في كل مكان تعبيرًا عن الجهل والتخلف، والبيئة القاسية والفقر الساطع في تلك البيوت والملابس والوجوه، وكذلك الطبيعة البكر الماء والخضرة والوجوه، التي تفيض رضًا، وأولها وجه “حنان” التي كانت راضية بحياة متقشفة في قرية بعيدة، أكبر ما يسكنها هو الفقر، كانت راضية ككل الراضين حولها، لكن الحياة لم ترض.

تواصل “نادين صليب” تصوير “حنان” وهي تتمرغ بكامل جسدها في تراب المقابر، لعل وعسى يأتي الغائب، لكنه لم يأت، جربت “حنان” كل شيء؛ الطب والدجل، العقل والجنون، الوصفات والحكايات، حتى تخطية الأفاعي المرعبة، وأشرفت على الموت مرات بكل رضا، حتي يأتي الغائب ولكنه لَوَّحَ مرة وحيدة من بعيد ثم ارتحل.

أيضــــــــــــــــــــــــًا.. «ربيـــع شتــوي».. لابد لربيـــع «هـــن» أن ينتصر ولشــتاء «الأبويــة» أن ينجلــي

الفقر والجهل والتخلف سيطر على حياة أولئك البسطاء جميعًا، حتى لم تعد لديهم حيلة مع الفقر والبؤس سوى جلب مزيد من الأبناء، الشيء الوحيد الذي يربحونه في هذا العالم دون مقابل، ودون تكلفة باهظة لا يطيقونها.

من تشاء الأقدار أن تحرمه تلك الهبة، يصبح معيبًا في نظر الجميع ونظر نفسه قبلهم، كم من سياط القسوة عاقبت “حنان” نفسها بها، حتى أنها تمنت الموت بدلًا من فتاة أنقذتها منذ سنوات وغرقت بالنيابة عنها، تمنت لو كانت الغريقة فلا فائدة لها في الحياة، هكذا تحدثت عن نفسها. وتستمر المخرجة “نادين صليب” في المزاوجة بين تعبيرات الوجوه والطبيعة، تُفصح شيئًا فشيئًا بتصاعد هارموني دقيق لا يترك المشاهد للملل، حتى أنه من الصعب جدًا أن يترك أحد الحضور العرض دون أن يكمله، تجذبك تلك الكاميرا الحساسة تجاه كل شيء، البشر والحجر بمعنى الكلمة، وليست الكاميرا وحدها، فكذلك كان شريط الصوت الذي عرف هو أيضًا قيادة أوركسترا منضبطة أشد الانضباط ؛ صوت المياه الغامضة التي لا نعرف كنهها إلا بتدريج محسوب له، وأصوات الحياة في الطبيعة الخارجية، وكذلك في تلك البيوت الريفية المتواضعة، ضحكات البنات والنساء، وقرع الطبول لاحتفال بحدث سعيد، وهمهمات نفس النسوة في حديث خاص، لا أعرف كيف تمكنت من أخذه منهن في هذا المجتمع المنغلق، وهل كُن يعلمن أن هذا سيُعرض للعامة؟، أسئلة تمنيت لو وجهتها إلى المخرجة، فضلًا عن كيفية التعامل مع تلك الطبيعة شديدة الثراء والقسوة معًا.

لم نكن أمام فيلم تقليدي، رغم بساطة الفكرة وعرضها مرات عديدة منذ سنوات طويلة في السينما الروائية قبل التسجيلية، لكنها المرة الأروع التي شاهدت فيها هذا الموضوع، حتى أن عيني البطلة تلاحقني من فرط ما فيها من صدق، تلك البطلة المتعلقة بالموت أكثر من الحياة، التي تواظب على ري زرع المقابر وزيارتها بشكل دائم، وكأن شيئًا هناك يشدها لتبقى بها دون جزع أو خوف أو حتى حزن.

العديد من الأماكن الاعتبارية في هذا الفيلم، سيطرت على لُب الحدث، كهذا الصبي السابح في ماء غامض، تعبيرًا عن رحم مجهول هو رحم “حنان” التي تحمل جنينها بين طيات الحلم والتمني، وكذلك تلك المقابر التي عبرت عن عالم اَخر، تسكن فيه رحمة مشتهاة، هي خلاص “حنان” من كل عذاباتها في عالمنا نحن.

معظم مشاهد الفيلم صُوِرَت بالنهار الخارجي والداخلي، شمس ساطعة دومًا حتى على نسيج خيوط العناكب، فهل كانت تعكس أملًا ما تمسكت به “نادين” رغم كل تلك القسوة، وتمسكت به “حنان” رغم كل الوهن والضغط الذي تعيشه دائمًا؟

غَدٌ ما حتمًا سيغير كل شيء أم حقيقة قاسية ساطعة لا نستطيع إخفاءها ولو حاولنا فعل ذلك، قراءات عديدة في تلك الرؤية الصادقة الكاشفة، عالم بعيد عن عالم المدينة بكل ضوضائها وزحامها اليومي؛ أناس بسطاء يواجهون الحياة بأقل إمكانات، ولا يشعر بهم أحد، ونساء يتجرعن مرار أنوثتهن الصرف في صمت وامتثال، فقط لأنهن إناث يضعن رؤوسهن على مذبح الحياة اليومي، كأضحية راضية طائعة إذا ما اقتضت الظروف ذلك.

“أم غائب” فيلم يستحق المشاهدة لكل المهتمين بعالم السينما التسجيلية ويستحق تحية كبيرة لجميع صناعه.