نسويات يغنين بكلمات تصدح بالحرية، تعززها إيقاعات تشعل الثورة في نفوس المستمعين؛ التمرد سمة في أغنياتهن، والقوة لا تفارق جملهن المُغناة، وعورات المجتمع التي يستميت لإخفائها والتستر عليها تنكشف جلية في ما يتغنين به.

«بنت المصاروة» هو فريق موسيقي نسوي، يضم ثلاث مغنيات، إلى جانب منسقة الفريق، تأسس كنتاج لورشة للكتابة الإبداعية نظمتها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية في منتصف عام 2014.

أنتجت مؤسسة «نظرة» الألبوم الأول لــ«بنت المصاروة»، وصدر في يونيو من العام 2015، وقد اختير اسم الفريق عنوانًا له، وحقق اّنئذ نجاحًا لافتًا، وعلى إثره جاب الفريق أنحاء مصر، وعقد  نحو 30 حفلًا في القاهرة والإسكندرية والمنيا وأسيوط وأسوان، وعبر إلى بلاد الأرز وأحيا حفلًا في بيروت.

يستعد «بنت المصاروة» حاليًا لإنتاج ألبومه الجديد، المزمع أن يضم 10 أغنيات بزيادة أربع أغاني عن السابق. وكان الفريق قد أطلق  في أغسطس الماضي، حملة  تمويل جماعي تحمل اسم «ساعدونا  نغني» بغية توفير النفقات المطلوبة لإنتاج الألبوم.

«ولها وجوه أخرى» أجرت حوارًا مع عضوات «بنت المصاروة»، للتعرف أكثر على الفريق ودوافع تأسيسه وأهدافه ونشاطاته خاصة في الوقت الحالي.

حلم وصدفة يقودان إلى تجربة متفردة

في البداية، استعدنا تلك المرحلة التي سبقت تشكيل الفريق، عندما أقدمت كل واحدة من عضواته على المشاركة في ورشة «عروستي» للكتابة الإبداعية التي نظمتها مؤسسة «نظرة».

“مشاركتي في الورشة لم تكن إلا بهدف الانتشار؛ كنت في ذلك الوقت أرى نفسي شاعرة تريد تطوير مهارات الكتابة لديها، ولم يكن لدي وعي نسوي، لكنني في الوقت ذاته كنت أشعر بالاغتراب وبالتفرقة لمجرد أنني أنثى. تغير ذلك الآن، ولم أعد اكترث لتصنيف نفسي كشاعرة، أو مغنية، أو مؤدية؛ الأهم أن أعبر عن ذاتي وفق ما ارتأيت وبأي شكل، حتى لو من خلال دموع تذرفها عيني، أثناء مشاركاتي في ورش الحكى لفرقتنا.” تقول إسراء صالح – عضوة بفريق «بنت المصاروة»

أما مارينا سمير فقد منحتها الصدفة فرصة أن تصبح إحدى مغنيات الفريق، عندما علمت بالورشة عن طريق موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وتقول “لم يكن لدي أي خبرة في كتابة الأغاني، لكن موضوع الورشة كان مثيرًا للاهتمام بالنسبة لي، فتقدمت للمشاركة، رغم عدم ثقتي في قبولي بها، ولذلك فوجئت عندما هاتفتني إحدى القائمات على الورشة لتحديد موعد لقاء شخصي.”

تتابع  سمير “كانت رغبتي حينذاك أن أكتب أغاني تعبر عما أعيشه كامرأة في المجتمع المصري. لقد كانت هذه الورشة أولى خطواتي لأحقق مبتغاي.”

وعن ما تبع الورشة، تكشف عضوات الفريق أن الأغاني التي كتبتها المشاركات كانت كثيرة، ولم يكن واضحًا فيما ستُستَخدم أو كيف سيُستَفاد منها، حتى جائتهن رسالة من مديرة المشروع وقتذاك، تبلغهن بأن مؤسسة «نظرة» مستعدة لإنتاج 6 أغاني من  التي كتبتها المشاركات، ولأن تسجيلها كان في الإسكندرية، تعذر على بعض المشاركات في الورشة السفر، وبالتالي سجلت الأغنيات كل من؛ ميام محمود وإسراء صالح ومارينا سمير، وبعد انتهاء التسجيل وتحول الكلمات إلى أغانٍ مسموعة، اتخذت الفتيات الثلاث قرارًا بأن يستمر نشاطهن كفرقة نسوية مستقلة تقدم إنتاجًا موسيقيًا مبني على تجاربهن الحياتية كنساء، ثم أعلن عن ذلك في حفل إطلاف الألبوم، في الأول من يونيو من العام 2015.

يذكر أن ميام محمود انسحبت من الفريق في مارس  الماضي، ويضم «بنت المصاروة» الاَن، إسراء ومارينا وإلى جانبهما مريم سمير.

وعن السبب في اختيار «بنت المصاروة» اسمًا للفريق، توضح العضوات أن الاختيار جاء بعد جلسة عصف ذهني جمعتهن، وجرى الاختيار من الجمل الواردة في الأغاني، وتقول إحداهن “توقفنا أمام جملة «قولوا لأبوها إن كان تعبان يريح.. بنت المصاروة أصلب من المسلح.»، وعندها شعرنا أن «بنت المصاروة» هو الأنسب والأكثر تعبيرًا عن أغانينا وعما نعايشه كنساء في مصر، وأيضًا لأنه يسمح لنا بالعمل على نطاق أوسع، فنحن نعرف أن ظروف السيدات المصريات مختلفة، ولكل واحدة تجاربها وهويتها الخاصة التي قد تفتح الباب أمام أشكال مشتركة من القهر، ولذلك اخترنا «بنت المصاروة».”

«بنت المصاروة» ينتمي إلى فئة الفرق المستقلة، التي تعاني على الأغلب من إمكانيات محدودة ماديًا وجماهيريًا، وفي الوقت نفسه يقدم محتوى فني «نسوي»، وهذا تحدٍ مضاعف،  سألنا عضوات الفريق عنه وعن أبرز العقبات التي تواجههن، فاتفقن على أن الموارد المادية هي العقبة الكبرى، لأنها تعيق تحقيق ما يطمحن إليه سواء على صعيد إنتاج الأغاني أو تنمية المهارات، إلا أنهن يحاولن التغلب على هذه المشكلة بالبحث عن طرق مبتكرة للتمويل تتمثل في إشراك المؤمنين والمؤمنات بتجربتهن في عملية الإنتاج.

وفي هذا الشأن، تؤكد العضوات أن الدعم من جانب المؤسسات النسوية داخل مصر وخارجها كبير، وظهر ذلك جليًا منذ انطلقت حملة التمويل الجماعي #ساعدونا_نغني، ولعل أبرز هذه المؤسسات؛ اختيار لأبحاث ودراسات النوع الاجتماعي، ونظرة للدراسات النسوية، وصندوق فريدا لتمويل النسويات الشابات، فضلًا عن دعم العديد من النسويات والنسويين.

ثورة ضد السائد: تمازُج النسوية والموسيقى

تميزت الأغاني التي ضمها الألبوم الأول لـ«بنت المصاروة» بطابع حاد  وجريء، تطرقت إلى أوهام الشرف والعذرية والذكورة، وصرخت ضد تكبيل المرأة والتمييز بين الجنسين في التربية، وهي موضوعات مترامية الأطراف، ومتعددة الأبعاد، وهو ما دفعنا لسؤالهن عن تجربتهن الأولى في تحويل كل هذا الشعور بالقهر والرغبة في الثورة إلى كلمات مركزة وبسيطة، وفي الوقت نفسه تتغلغل في عمق الأزمة، فتجيب إحداهن قائلة “حتى الاَن، نستطيع أن نقول أننا نجحنا في التعبير عن جزء من مشاعرنا وحقوقنا وغضبنا، ربما ما ينقصنا هو انتشار أكبر وتطوير الموسيقى التي نقدمها، وهذا ما نستهدف تحقيقه في الألبوم المقبل، الذي سيحمل اسم «مزغونة».”

وعن اَلية العمل داخل الفريق، تكشف العضوات أن التشارك هو الأساس، سواء في اتخاذ القرارات، أو التخطيط أو كتابة الكلمات وحتى التلحين، مع توزيع بعض المسؤوليات؛ فالعضوة إسراء صالح هي أكثر من يكتب كلمات الأغاني بمفردها، أما مريم سمير فهي المسؤول عن التلحين بشكل أساسي، وهذا لا ينفي أيضًا تنفيذ بعض الألحان في إطار تشاركي. علاوة على ذلك، مارينا سمير هي الشخص المعني بالشؤون الإدارية ويساعدها منسقة الفريق ميريت عبد المولى.

تشدد العضوات على أن العمل داخل «بنت المصاروة» يرتكز على التشارك، والموافقة الجماعية أساسية في كافة التفاصيل بدءًا من كلمات الأغاني مرورًا بالتلحين والإنتاج الموسيقي، والتسجيل وصولًا إلى تصميم غلاف الألبوم.

فكرة الأغاني ذات الطابع النسوي، بدأت تنتشر مؤخرًا بين عدد من المطربات اللاتي ينتمين إلى تيار الموسيقى المستقلة، وارتفع سقف الأغنيات، ولعل المثال الأبرز أغنية «شهرزاد» للفلسطينية تريز سليمان التي وصَّفت حالة حب مثلي، فهل يضع «بنت المصاروة» سقفًا أم يمكنه أن يخوض في كل المحظورات دون تَخوُّف؟

الإجابة كانت قاطعة “معندناش سقف”، مشيرات إلى أن الأفكار التي تأتيهن يكتبن عنها، مع مراعاة تنوع الموضوعات.

“ما يُميزنا هو أننا نعلن ونؤكد أننا تقدم إنتاجًا موسيقيًا نسويًا، ونقول إن نسويتنا جزء من هويتنا، ونحن نرى حيواتنا من خلال النسوية، لأن النسوية بالنسبة لنا شيء شخصي جدًا، تُمكِّننا من إعادة طرح التساؤلات بشأن كل ما تعلمناه وأدركناه عن أنفسنا وأجسادنا والمجتمع.” تقول إحدى عضوات الفريق، ردًا عن سؤالنا عما يعتقدن أنه يميز فريقهن عن بقية الفرق الموسيقية التي قد تقدم أغاني ذات بُعد نسوي.

بحسب عضوات «بنت المصاروة»، فإن الفريق يحاول دائمًا مراعاة النوع الاجتماعي في كل ما يقوم به في إطار عملية الإنتاج، وأنهن يحلمن بأن يستطعن في يوم ما أن ينتجن موسيقى تقوم عليها النساء فقط، بداية من كتابة الكلمات إلى التحلين والعزف وصولًا إلى هندسة الصوت، إيمانًا منهن بأن مجال الإنتاج الموسيقي في مصر بشقيه التجاري والمستقل يهيمن عليه العنصر الذكوري.

«بنت المصاروة» كحالة متفردة تثير في ذهننا تساؤلًا بشأن العنف، الذي قد تكون العضوات عرضة له من قبل الرافضين لأفكارهن التي تبوح بها أغنياتهن، وللاَسف تؤكد العضوات أنهن يتعرضن للعنف، لافتات إلى واقعتين، الأولى عندما فوجئن بسيل من التعليقات ذات الطابع الأبوي والذكوري على المقطع الترويجي لحملتهن القائمة، وجميعها لرجال ينتقدن ملابسهن ومظهرهن وخطابهن أو يتهمونهن بهدم ثوابت وقيم المجتمع.، والثانية هي واقعة عنف لفظي، تعرضن لها خلال إحدى حفلاتهن في جامعة القاهرة في ديسمبر الماضي، عندما اعتبر بعض الطلاب الذكور أن الفريق يدعو للانحلال والتحرر “الموضوع بدأ بنقاش ثم تحول إلى عنف لفظي ضدنا.”

أغنيات من رحم حكايات

تحت عنوان «مشروع الصعيد»، تنقل الفريق بين قرية أبو غرير في محافظة المنيا، وقرية دير درنكة في محافظة أسيوط، ومحافظة أسوان، لعقد ورش حكي في الفترة من أغسطس من العام 2016 وحتى فبراير الماضي، وعن هذه الرحلة قررنا أن نتحدث في القسم الثاني من حوارنا.

وجهنا سؤالًا للعضوات عن سبب اختيارهن للصعيد، على الرغم من أن القاهرة أكثر انفتاحًا على ثقافة «الحكي» وورشه مألوفة في المجتمع القاهري، وكانت الإجابة “نحن نطمح إلى تقديم إنتاج عن حكايات نساء أخريات، يعشن في ظروف مختلفة، ويتعرضن للقهر لأكثر من سبب، وفي الوقت ذاته لا نريد أن نتحدث على لسان إحداهن، كنا نرى أنه من الضروري التعرف على الحكايات برؤية النساء أنفسهن، ولذا قررنا أن نبدأ بالصعيد.”

يتطلع «بنت المصاروة» إلى تنظيم العديد من ورش الحكي في محافظات مختلفة، إلا أنه بدأ بالصعيد للتنوع الكبير الذي يتسم به هذا المجتمع ،فضلًا عن أنه الأكثر تهميشًا على مستوى الخدمات والتنمية، وأخيرًا لرغبة عضواته في توفير مساحة الحكي للنساء في الصعيد لأن هذه الفرصة غير متاحة لهن.

جانب من إحدى جلسات الحكي – الصعيد

تشير عضوات الفريق إلى أن نساء الصعيد رحبن بهن وبفكرة الحكي، ومنهن من قال “إحنا أول مرة حد يبقى مهتم يسمع عن حكاياتنا أو يخلينا نتكلم عن نفسنا كدا”

يعتبر «بنت المصاروة» أن الورش كانت أكبر من فكرة حكي متبادل بين طرفين ، كانت أشبه بدائرة تلقي فيها المشاركات ما يشعرن به من حزن وغضب، ويتبادلن الغناء والضحك والرقص.

تستطرد إحدى العضوات “من خلال الحكي، عرفنا أننا لسنا وحدنا، وفي حقيقة الأمر انفتاح السيدات ومشاركتهن لنا، وحتى إصغائهن باهتمام لحكاياتنا، جعلنا نعيش معنى جديد للتضامن، فالتضامن لا يتوقف على توقيع توقيع البيانات أو المشاركة في المظاهرات، وإنما أن نُقَّدر اَلام بعضنا البعض، وأن نستمع ونصغي وندعم بتقديم المحبة والاهتمام، والـ34 سيدة اللاتي التقينا بهن لم يبخلن بأي شيء من هذا.”

كما كان لورش الحكي تأثير على عضوات «بنت المصاروة»، كان لها أثر كبير أيضًا على المشاركات، ففي قرية دير درنكة، قررت النساء مواصلة عقد جلسات الحكي بعد رحيل الفريق، وبنات قرية البرشا بالمنيا اللاتي التقى بهن الفريق خلال الورشة التي أقيمت في قرية أبو غرير،  بدأن في كتابة أغانٍ عن حياتهن، أما نساء قرية أبو غرير أنفسهن مازالن على اتصال بالفريق، أما الفتيات في أسوان فقد أقدمن على الغناء مع «بنت المصاروة» في الحفل الذي أقامه الفريق في ختام فعاليات ورشة الحكي، وكانت أول مرة يغنين فيها والمرة الأولى التي تغني فيها عضوات الفريق مع أخريات.

طرحنا على عضوات الفريق سؤالًا، بشأن ما أظهره لهن الاحتكاك بهؤلاء النسوة، فهل تبين أنهن يدركن أن ثمة عنف يُمارَس ضدهن أم يتعايشن معه باعتباره أم طبيعي؟

“نحن نؤمن أن أي امرأة تتعرض للعنف تكون على دراية بأن ما يقع عنفًا، ولكن كل واحدة تختار التعايش معه بالطريقة الأكثر ملائمة لظروفها، حتى إن كانت الطريقة هي الإنكار، ونحن نرى أن هذا من حق كل امرأة، ومن شاركونا بحكاياتهن في الورش، كانت لهن حروبهن التي تختلف باختلاف ظروف كل منهن، وأدركنا وقتذاك أنه لا ينبغي أن ننتظر منهن المقاومة بنفس طريقتنا، لأننا لسنا في أماكنهن ولا نعايش نفس ظروفهن.” بهذه الكلمات جاءت الإجابة المشتركة لعضوات «بنات المصاروة» عن سؤالنا.

تبدو مهمة تحويل القصص إلى أغانٍ، بالتوازي مع استخلاص المشاعر، والتعبير عنها بالأسلوب الذي يتناسب مع موسيقاهن، مهمةً معقدة وصعبة بعض الشيء، لكن فتيات «بنت المصاروة» لا يجدنها كذلك، فهن يتفاعلن مع الحكايات، لا سيما أنها تتقاطع مع خبراتهن وتجاربهن الشخصية، ويكتبن من خلال ما يتولد داخلهن من مشاعر إزاء هذه القصص.

في جعبة فريق «بنت المصاروة» الكثير من القصص التي أنتجتها جلسات الحكي مع 34 سيدة، تبين من خلالها أنه ليس هناك نوع محدد من العنف  ضد النساء أطغى على غيره، وليس دائمًا القائم به هو الأسرة أو العائلة، فبحسب عضوات الفريق، فإن قصص النساء تؤكد فكرة مؤسسات القهر وتقاطعها التي يراها البعض شعارات طناطة لا يريدون سماعها، لأن هؤلاء السيدات يتعرضن للعنف لأسباب مثل؛ المركزية، والطائفية، والعنصرية، والطبقة الاجتماعية، والهوية الدينية.

عند هذه النقطة انتهى حوارنا معهن، وقد اخترن أن يختتمن الحديث بالتأكيد على أنهن “كنسويات ضد جميع مؤسسات القهر، وأولها الأبوية والذكورية ثم الطبقية والعنصرية والطائفية، وما يترتب عليها من عنف تتعرض له النساء.”