حتى هذه اللحظة، لا يعلم كثيرون أن أول امرأة اقتحمت مجال التصوير الفتوغرافي في العالم العربي، كانت من بنات فلسطين، وبفضلها تمكنت الكثير من الفلسطينيات، من الوقوف أمام العدسة لالتقاط الصور، بعد أن كان ذلك محظورًا، بسبب احتكار الرجال للمهنة، وهو ما كانت تعتبره الأسر والعائلات وقتذاك، مبررًا لحرمان البنات والنساء من التصوير، كما نجحت هذه السيدة في أن توثق عبر عدستها، خصوصية الحياة على أرض فلسطين التاريخية، أو فلسطين ما قبل النكبة، التي طمس الاحتلال كثيرًا من معالمها وملامحها. ربما لم تكن تدري وقتها، أن أرشيف الصور الذي صنعته على مدار ربع قرنٍ، سيصبح إرثًا تبكي العيون، عند مطالعته، اَلمًا على ما قطع المحتل أوصاله وامتداده، وعلى الأرجح لم تتخيل أن هذه الصور ستتحول في يومًا ما، إلى برهان يستدل به المدافعون عن الأرض المنتهكة، للرد على من زعم زورًا أن هناك أرضًا بلا شعب يجب أن تكون لشعب بلا أرض.

الاسم الذي ظل منسيًا بعد رحيل صاحبته لنحو نصف قرن، سيتكرر ذكره كثيرًا في السطور التالية، إذ نسلط الضوء على سيرة المصورة الأولى، «كريمة عبود».

لأكثر من نصف قرن.. أول مصورة عربية في طي النسيان

كريمة عبود

في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن «كريمة عبود»، جاء ذكرها لأول مرة بعد رحيلها، في العام 2005، في كتاب الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني «عصام نصار»، الذي يحمل اسم «لقطات مغايرة: إلقاء الضوء على التصوير المحلي المبكر في فلسطين»، أي بعد 65 سنة على وفاتها، وفي العام 2008، نشر جامع مقتنيات إسرائيلي، في إحدى الصحف المحلية، سؤالًا عن المصورة «كريمة عبود»، بعد أن حصل على مجموعة من صورها، يصل عددها إلى 4000 صورة تقريبًا، وجدها في بيت كان مستأجرًا لها في مدينة القدس، وقد قال في إعلانه «من لديه أي معلومات عن مصورة فوتوغراف، تدعى كريمة عبود، كانت تعمل في الناصرة، ويعرف عن عائلتها فليخابرني عنها، عبر الرقم المذيل بالإعلان،…»، فبادر الباحث الفلسطيني «أحمد المروات»، المهتم بجمع الصور التي توثق تاريخ فلسطين، بالتواصل معه، واطلع على المجموعة، وقرر أن يقتنيها بأي ثمن، واتبع معه مبدأ المقايضة، فأعطاه كتابًا قديمًا، طُبِع في العام 1860، في مقابل الحصول على مجموعة الصور كاملة.

شغف «المروات» كان أبعد من حدود ضم المجموعة إلى مقتنياته، فقد عمد إلى دراسة الصور، وتحليلها، وحاول تحديد الزمن الذي التقطت فيه، والأماكن أيضًا، وبدأ رحلة البحث والتنقيب في رحلة «كريمة عبود» مع التصوير الفتوغرافي.

تلحمية المولد.. ناصرية المنشأ 

ولدت «كريمة عبود»، في مدينة بيت لحم، في نوفمبر، من العام 1893، حيث انتقل والدها من مدينة الناصرة، ليُرَّسم قسيسًا للكنيسة اللوثرية هناك، ومع ذلك فإن مدينة الناصرة، كانت ذات مكانة خاصة في حياتها، فعلاوة على أنها عاشت فيها لفترة، لم تنقطع عن زيارتها طوال حياتها، ويكشف ما يتوفر من أرشيفها المصور، ارتباطًا وثيقًا بينها وبين هذه المدينة.

عائلة «عبود»، تعود أصولها إلى لبنان، وقد انتقلت أسرة والدها من لبنان إلى فلسطين، عندما كان في الخامسة والعشرين، وعاشوا في مدينة الناصرة.

في حب التصوير الفتوغرافي

درست «كريمة عبود» في مدرسة الفرير الفرنسية، ثم انتقلت إلى بيروت لتدرس في الجامعة الأمريكية، وفي هذه المرحلة، بدأ شغفها بالتصوير الفتوغرافي ينجلي لمن حولها، وقد لاحظ والدها ذلك، فأهداها كاميرا، ويقال أنها كانت تزور استديوهات تصوير في؛ القدس ويافا وحيفا، وتتلمذت على يد أحد المصورين في القدس.

كانت الكاميرات اَنئذٍ، خشبية وكبيرة الحجم، ومع ذلك فإن صور «عبود» تبدو متحررة، من كل ما قد يبدو معوقًا، للالتقاط صور، كتلك التي صورتها للأماكن المفتوحة والبيوت والكنائس.

لم تكن «عبود» مصورةً محليةً فحسب، إذ يضم أرشيفها، صورًا في مدينة بعلبك في لبنان، وصورًا للأهرامات المصرية.

 

أظهر أحد الإعلانات الدعائية المنشورة في صحيفة الكرمل الفلسطينية (أسسها نجيب نصار – 1908)، خلال العام 1931، «كريمة عبود»، كأول مصورة في فلسطين

عدسة نسوية

في بدايات القرن العشرين، كان اشتغال النساء بالتصوير الفتوغرافي، أو وقوفهن أمام عدسة الكاميرا مُحرَّمًا، فكانت المهنة ذكورية والمستفيدون منها، هم الذكور أيضًا، لذلك كان دخول «عبود» إلى هذا العالم، خروجًا عن القاعدة المجتمعية، وتحدٍ للأعراف والتقاليد، وانقلابًا على الاحتكار الذكوري، لم تكتف بالظفر به وحدها، وإنما ساهمت في أن تستفيد النساء منه كذلك، فقررت أن تصور النساء في بيوتهن، وأعلنت عن ذلك، في صحف فلسطينية، فذاع صيتها، واطمئن لها كثير من النساء والعائلات، خاصة أنها أسست معمل تحميض وطباعة في بيتها، حتى تكون المسؤول الأول والأخير عن الصور، دون تدخل من أي رجل، وهو ما كان مشجعًا لعائلات في الأردن وسوريا ولبنان، حتى يطلبوا منها تصوير بناتهم.

تتميز صور «كريمة عبود»، بأنها تفوح بروح الحياة في فلسطين التاريخية، فبينما كان المصورون الرجال وقتذاك، منشغلين بالأرض والاَثار والمقدسات، كانت عدستها موجهة صوب النسوة، والعائلات، والحياة اليومية

لم تقتصر الصور التي صورتها «عبود» للنساء، على البورتريهات التقليدية، بل صورتهن يمارسن طقوسهن، ويشتغلن سواء في الفلاحة، أو التطريز، أو صناعة الألبان، وغيره، فجسدت حياتهن عبر عدستها، التي وصفها باحثون بـ«العدسة النسوية»، وقد صدر في العام 2013، كتاب يحمل اسم «كريمة عبود :رائدة التصوير النسوي في فلسطين»، أعده كلٌ من؛ القس الدكتور «متري الراهب» والدكتور «عصام نصار»  والباحث «أحمد مروات».

في بدايات القرن العشرين، كانت الفلسطينيات يُجبرن على الابتعاد عن  عدسة الفتوغرافيا، إلا في حالات نادرة، عندما يكون المصور من من المستشرقين، حتى ظهرت «كريمة عبود»، وأصبحت عدستها ملاذًا لبنات جنسها

أسست «كريمة عبود» استديو خاص بها، في شارع يافا ببيت لحم، ليمثل ذلك نقطة تحول أخرى في مسيرتها، فبعد أن كان استجلابها إلى البيوت الحل الوحيد لالتقاط الصور للنساء، أضحى هذا الاستديو، الأول من نوعه، تتردد عليه النسوة للتصوير بأريحية.

ليست مجموعة الصور، التي اقتناها الباحث «أحمد المروات»، هي الأرشيف الكامل لــ«كريمة عبود»، وإنما هناك مجموعات أخرى، متفرقة، البعض منها موجود لدى العائلة، وتحديدًا ابنها، الذي هاجر إلى البرازيل

قبل النكبة.. رحيل مبكر ولكنه مغبوط

توفيت «كريمة عبود»، قبل أن تشهد النكبة التي حلت بفلسطين، وترى بعينيها أن ما وثقته في صورها، من أرض وحياة وتاريخ، يُسلب، ويزور. رحلت في إبريل من العام 1940، بعد معاناة صحية، استمرت لنحو سنتين، بسبب إصابتها بحمى التيفوئيد، ودُفِنَت في مقبرة الكنيسة اللوثرية، في بيت لحم.