اعتلت المرأة الغربية، منصب «الوزير» لأول مرة في العام 1917، عندما اختيرت ألكسندرا كولونتاي، وزيرةً لـ«الشؤون الاجتماعية»، في روسيا، بينما وصلت المرأة العربية إلى هذا المنصب، بعد 42 سنة، عندما اختيرت الطبيبة نزيهة الدليمي البالغة من العمر اَنئذ 36 عامًا، لتولي حقيبة «الأشغال والبلديات» في العراق في العام 1959، وهي حقيبة استُحدِثَت في إطار أول تعديلات أجريت على أول حكومة بعد ثورة يوليو 1958، التي أطاحت بالحكم الملكي في العراق.

أيضــــــــــًا.. عام 1962 – تعيين أول وزيرة في مصر والثانية عربيًا

وكان عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية حينذاك، قد أصدر مرسومًا في 13 يوليو من العام 1959، برقم 480 لسنة 1959، يقضي بتعيينها وزيرة لـ«البلديات»، لتصبح أول امرأة عراقية وعربية تشغل هذا المنصب. وفي فيلم وثائقي يتناول سيرتها، صدر في العام 2004، وأعدته الصحافية العراقية أنعام كه جا جي، تقول الدليمي «نودي عليَّ لمقابلة الزعيم عبد الكريم، فذهبت إليه راكبةً الباص (الأتوبيس)، وحينها كلفني بوزارة البلديات.»

للاَسف، لم تكن المرأة المصرية أول النساء العربيات في الوصول إلى مقعد «الوزير»، لا سيما أن حكمت أبو زيد تقلدت منصب وزيرة «الشؤون الاجتماعية» في سبتمبر من العام 1962، بعد أن سبقتها العراقية نزيهة الدليمي.

قبل أن تصبح الدليمي وزيرة، عرفها العراقيون واحدة من أبرز القيادات الشيوعية والرائدات النسويات في العراق، وكانت أول من شغل رئاسة رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية، وهي منظمة نسوية جماهيرية تأسست في العام 1952، واستطاعت أن تضم إلى قواعدها الاَلاف من النساء، وعملت التليمي من خلالها على ربط حركة تحرير المرأة بالنضال الوطني وقتذاك، كما لعبت دورًا محوريًا في الدفع بتشريع قانون الأحوال الشخصية، رقم 188 لسنة (1959) ، وكان واحدًا من أكثر قوانين الأحوال الشخصية مدنيةً وتقدمًا في العالم العربي، فقد حدد سن الزواج بـ18 عامًا، ونص على تقييد تعدد الزوجات، فلم يبحه إلا بإذن من القاضي وبعد توفر شروط لذلك، وأقرت إحدى مواده المساواة بين الذكور والإناث في الإرث، واعترف بحق الخلع للمرأة ولم يُسقط عن الأم حضانتها لأبنائها إذا تزوجت بعد الطلاق.

أصدرت تونس مجلتها للأحوال الشخصية في أغسطس من العام 1956، التي كانت وما زالت الأكثر تقدمًا بين قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي، لكن قانون الأحوال الشخصية العراقي الذي صدر في 30 ديسمبر من العام 1959(قبل أي تعديل عليه)، كان يضم بين طياته موادًا، تفوقت على نظيرتها في القانون التونسي، مثل، تحديد سن الزواج بـ18 عامًا، بينما حدده القانون التونسي عند صدوره بـ17 عامًا للفتاة، وإن لم يكن القانون العراقي قد منع تعدد الزوجات نهائيًا مثل التونسي، واكتفى بتقييده، لكنه نص على المساواة بين الذكور والإناث في الميراث، ليكون أول قانون عربي يقضي بذلك، بينما أقرت تونس ذلك في العام 2017.

مشروع القانون الذي تقدمت به الدليمي إلى الحكومة، ممثلةً عن رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية ونال الموافقة، أثار عاصفة من الغضب بين رجال الدين، وهوجمت على إثره مقرات الرابطة في شتى أنحاء العراق، ولم يتمكن من الصمود كثيرًا في وجه المعارضة الشرسة له، وخضع لأول تعديل في العام 1963، وضاع واحد من أبرز مكتسبات المرأة العراقية، وهو المساواة في الإرث، وبموجب تعديل القانون بقانون رقم 11 لسنة 1963، عاد توزيع الإرث بناءً على قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين»، ثم توالت التعديلات التي أفقدت القانون صبغته المدنية.

أيضــــــًا.. الـ«تونسـ»وفوبيا: متنطعون يشيعون الرعب بين ذكوريين في مجتمع أبوي

واحد من أهم الإنجازات التي حققتها أثناء توليها حقيبة «البلديات»، هو إنقاذها للفقراء النازحين من المناطق الريفية في جنوب العراق، هربًا من جور وظلم الإقطاع قبل الثورة، من خلال انتهاج خطة لتوزيع أراضي إحدى الضواحي في شرق بغداد عليهم، لتحمل بعدها اسم مدينة «الثورة». تحول اسم المدينة إلى «صدام» في عهد صدام حسين، وبعد الغزو أصبحت مدينة «الصدر»، وتعتبر حاليًا المعقل الرئيس لأتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر.

في 13 مايو من العام 1960، صدر مرسوم جمهوري برقم 263، ينص على تعيين نزيهة الدليمي بمنصب وزيرة «دولة»، بدلاً عن وزارة «البلديات» ، وهو منصب أقرب للشرفي، ويقال أن السبب في ذلك، كان حالة السخط التي أحدثها قانون الأحوال الشخصية، الذي وقفت وراءه، وصاحبتها حملة تشويه واسعة طالتها وأسرتها.

وقد جاء من بين اَخر تصريحاتها، التي أدلت بها إلى جريدة «الشرق الأوسط» في العام 2004، واحد عبرت فيه عن شعور بالاستياء والحسرة، إزاء ما أثير حينها، بشأن الإلغاء الكلي لقانون الأحوال الشخصية، 188 لسنة (1959)، وقالت «أنا ضد إلغاء القوانين التي تضمن للعراقيات حقوقهن, بل أنني أتمنى إصدار مزيد من التشريعات، التي تخدم الأسرة وتحافظ على استقرارها, برجالها ونسائها.»

رحلت عن العراق لأول مرة في أغسطس من العام 1961، بعد أن قررت قيادة الحزب الشيوعي العراقي إرسال وفد من كوادر الحزب، للدراسة في المدرسة الحزبية في الإتحاد السوفيتي، وكانت ممن وقع عليهم الاختيار، وبعد انتهاء الدراسة، لم تتمكن من العودة وأرغِمَت على البقاء خارج العراق، بسبب الانقلاب الذي وقع في فبراير في العام 1963، ولم تعد إلى العراق إلا في العام 1968، وكان ذلك بشكل سري، لتجد نفسها ملاحقة من قبل السلطة، وهو ما اضطرها للرحيل مرة أخرى، وظلت تتنقل من منفى إلى اَخر، حتى استقرت في ألمانيا، وبحسب تصريحاتها الأخيرة لـ«الشرق الأوسط»، فإنها كانت تقيم وحيدة، ويتفقدها بعض العراقيين من حين لاَخر, ويتردد عليها بعض المعالجين الألمان لمتابعة حالتها الصحية, مشيرةً إلى أنها اكتفت بإخبارهم بأنها طبيبة عراقية.

عاشت الدليمي في ألمانيا حتى وافتها المنية في 9 أكتوبر من العام 2007، قبل أن تتمكن من العودة إلى بلدها، وقد عاد جثمانها ليوارى الثرى في العراق، بناءً على وصيتها.